الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} هذا أول ما أوحي به من القرآن إلى محمد صلى الله عليه وسلم لِما ثبت عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم مما سيأتي قريباً. وافتتاح السورة بكلمة {اقرأ} إيذان بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيكون قارئاً، أي تالياً كتاباً بعد أن لم يكن قد تلا كتاباً قال تعالى: {وما كنت تتلوا من قبله من كتاب} [العنكبوت: 48]، أي من قبل نزول القرآن، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل حين قال له اقرأ: " ما أنا بقارئ ". وفي هذا الافتتاح براعة استهلال للقرآن. وقوله تعالى: {اقرأ} أمر بالقراءة، والقراءة نطق بكلام معيَّن مكتوببٍ أو محفوظٍ على ظهر قلب. وتقدم في قوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ باللَّه من الشيطان الرجيم} في سورة النحل (98). والأمر بالقراءة مستعمل في حقيقته من الطلب لتحصيل فعل في الحال أو الاستقبال، فالمطلوب بقوله: {اقرأ} أن يفعل القراءة في الحال أو المستقبل القريب من الحال، أي أن يقول مَا سَيُمْلَى عليه، والقرينة على أنه أمر بقراءة في المستقبل القريب أنه لم يتقدم إملاء كلام عليه محفوظ فتطلب منه قراءته، ولا سُلمت إليه صحيفة فتطلب منه قراءتها، فهو كما يقول المُعلم للتلميذ: اكتب، فيتأهب لكتابة ما سيمليه عليه. وفي حديث «الصحيحين» عن عائشة رضي الله عنها قولها فيه: «حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال: اقرأ. قال: فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجَهْد ثم أرْسَلَني فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطّني الثانيةَ حتى بلغ مني الجَهد ثم أرسلني فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجَهد، ثم أرسلني فقال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} إلى {ما لم يعلم}. فهذا الحديث روته عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقولها قال: " فقلت: ما أنا بقارئ ". وجميع ما ذكرته فيه مما روته عنه لا محالة وقد قالت فيه: «فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فُؤاده» أي فرجع بالآيات التي أُمليَتْ عليه، أي رجع متلبساً بها، أي بوعيها. وهو يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلقى ما أوحي إليه. وقرأه حينئذٍ ويزيد ذلك إيضاحاً قولها في الحديث: «فانطلقت به خديجة إلى ورقة بن نوفل فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك»، أي اسمع القول الذي أوحي إليه وهذا ينبئ بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قيل له بعد الفطة الثالثة: {اقرأ باسم ربك} الآيات الخمس قد قرأها ساعتئذٍ كما أمره الله ورجع من غار حراء إلى بيته يقرؤها وعلى هذا الوجه يكون قول المَلك له في المرات الثلاث {اقرأ} إعادة للفّظ المنزل من الله إعادة تكرير للاستئناس بالقراءة التي لم يتعلمها من قبل. ولم يُذكر لِفعل {اقرأ} مفعول، إما لأنه نزل منزلة اللازم وأن المقصود أوجد القراءة، وإما لظهور المقروء من المقام، وتقديره: اقرأ ما سنلقيه إليك من القرآن. وقوله {باسم ربك} فيه وجوه: أولها: أن يكون افتتاح كلام بعد جملة {اقرأ} وهو أول المقروء، أي قل: باسم الله، فتكون الباء للاستعانة فيجوز تعلقه بمحذوف تقديره: ابتدئ ويجوز أن يتعلق ب {اقرأ} الثاني فيكون تقديمه على معموله للاهتمام بشأن اسم الله. ومعنى الاستعانة باسم الله ذكر اسمه عند هذه القراءة، وإقحامُ كلمة (اسم) لأن الاستعانة بذكر اسمه تعالى لا بذاته كما تقدم في الكلام على البسملة، وهذا الوجه يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {باسم الله} حين تلقَّى هذه الجملة. الثاني: أن تكون الباء للمصاحبة ويكون المجرور في موضع الحال من ضمير {اقرأ} الثاني مقدَّماً على عامله للاختصاص، أي اقرأ ما سيوحَى إليك مصاحباً قراءتَك (اسمَ ربك). فالمصاحبة مصاحبة الفهم والملاحظة لجلاله، ويكون هذا إثباتاً لوحدانية الله بالإلهية وإبطالاً للنداء باسم الأصنام الذي كان يفعله المشركون يقولون: باسم اللاتتِ، باسم العزى، كما تقدم في البسملة. فهذا أول ما جاء من قواعد الإسلام قد افتتح به أول الوَحي. الثالث: أن تكون الباء بمعنى (على) كقوله تعالى: {من إن تأمنه بقنطار} [آل عمران: 75]، أي على قنطار. والمعنى: اقرأ على اسم ربك، أي على إذنه، أي أن المَلَك جاءك على اسم ربك، أي مرسلاً من ربك، فذكر (اسْم) على هذا متعين. وعدل عن اسم الله العَلم إلى صفة {ربك} لما يؤذن وصف الرب من الرأفة بالمربوب والعناية به، مع ما يتأتى بذكره من إضافته إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم إضافة مؤذنة بأنه المنفرد بربوبيته عنده رداً على الذين جعلوا لأنفسهم أرباباً من دون الله فكانت هذه الآية أصلاً للتوحيد في الإسلام. وجيء في وصف الربّ بطريق الموصول {الذي خلق} ولأن في ذلك استدلالاً على انفراد الله بالإلهية لأن هذا القرآن سيُتلى على المشركين لما تفيده الموصولية من الإيماء إى علة الخبر، وإذا كانت علة الإقبال على ذكر اسم الرب هي أنه خالق دل ذلك على بطلان الإقبال على ذكر غيره الذي ليس بخالق، فالمشركون كانوا يقبلون على اسم اللات واسم العزى، وكونُ الله هو الخالق يعترفون به قال تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله} [لقمان: 25] فلما كان المقام مقام ابتداء كتاب الإسلام دين التوحيد كان مقتضياً لذكر أدلّ الأوصاف على وحدانيته. 6 وجملة {خلق الإنسان من علق} يجوز أن تكون بدلاً من جملة {الذي خلق} بدل مفصَّل من مُجْمل إن لم يقدر له مفعول، أو بدل بعض إن قُدِّر له مفعول عام، وسُلك طريق الإبدال لما فيه من الإجمال ابتداءً لإقامة الاستدلال على افتقار المخلوقات كلها إليه تعالى لأن المقام مقام الشروع في تأسيس ملة الإسلام. ففي الإجمال إحضار للدليل مع الاختصار مع ما فيه من إفادة التعميم ثم يكون التفصيل بعد ذلك لزيادة تقرير الدليل. ويجوز أن تكون بياناً من {الذي خلق} إذا قُدر لفعل {خلق} الأول مفعول دل عليه بيانه فيكون تقدير الكلام: اقرأ باسم ربك الذي خلق الإنسان من علق. وعدم ذكر مفعول لفعل {خلق} يجوز أن يكون لتنزيل الفعل منزلة اللازم، أي الذي هو الخالق وأن يكون حذف المفعول لإرادة العموم، أي خلق كل المخلوقات، وأن يكون تقديره: الذي خلق الإنسان اعتماداً على ما يرد بعده من قوله {خلق الإنسان}، فهذه معاننٍ في الآية. وخص خلق الإِنسان بالذكر من بين بقية المخلوقات لأنه المطَّرد في مقام الاستدلال إذ لا يَغفُلُ أحد من الناس عن نفسه ولا يخلو من أن يخطر له خاطر البحث عن الذي خلقه وأوجده ولذلك قال تعالى: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} [الذاريات: 21]. وفيه تعريض بتحميق المشركين الذين ضلوا عن توحيد الله تعالى مع أن دليل الوحدانية قائم في أنفسهم. وفي قوله: {من علق} إشارة إلى ما ينطوي في أصل خَلْق الإِنسان من بديع الأطوار والصفات التي جعلته سلطانَ هذا العالم الأرضي. والعلق: اسم جمع عَلَقَة وهي قطعةٌ قَدرُ الأنملة من الدم الغليظ الجامد الباقي رطْباً لم يجفّ، سمي بذلك تشبيهاً لها بدودةٍ صغيرة تسمَّى علقة، وهي حمراء داكنة تكون في المياه الحلوة، تمتص الدم من الحيوان إذا علق خرطومها بجلده وقد تدخل إلى فم الدابة وخاصة الخيل والبغال فتعلق بلهاته ولا يُتفطن لها. ومعنى: {خلق الإنسان من علق} أن نطفة الذكر ونطفة المرأة بعد الاختلاط ومضي مدة كافيَة تصيران علقةً فإذا صارت علقة فقد أخذت في أطوار التكوّن، فجُعلت العلقة مبدأ الخلق ولم تُجعل النطفة مبدأ الخلق لأن النطفة اشتهرت في ماء الرجل فلو لم تخالطه نطفة المرأة لم تصر العلقة فلا يتخلق الجنين وفيه إشارة إلى أن خلق الإنسان من علق ثم مصيره إلى كمال أشده هو خلق ينطوي على قوى كامنة وقابليات عظيمة أقصاها قابلية العلم والكتابة. ومن إعجاز القرآن العلمي ذكر العلقة لأن الثابت في العلم الآن أن الإِنسان يتخلق من بويضة دقيقة جداً لا ترى إلا بالمرآة المكبِّرة أضعافاً تكون في مبدإ ظهورها كروية الشكل سابحة في دم حيض المرأة فلا تقبل التخلق حتى تخالطها نطفة الرجل فتمتزج معها فتأخذ في التخلق إذا لم يَعُقْها عائق كما قال تعالى: {مخلقة وغير مخلقة} [الحج: 5]، فإذا أخذت في التخلق والنمو امتد تكورها قليلاً فشابهت العلقة التي في الماء مشابَهة تامة في دقة الجسم وتلونها بلون الدم الذي هي سابحة فيه وفي كونها سابحة في سائل كما تسبح العلقة، وقد تقدم هذا في سورة غافر وأشرت إليه في المقدمة العاشرة. ومعنى حرف {مِن} الابتداء. وفعل {اقرأ} الثاني تأكيد ل {اقرأ} الأول للاهتمام بهذا الأمر. {اقرأ وَرَبُّكَ} {الاكرم * الذى عَلَّمَ بالقلم * عَلَّمَ الإنسان مَا}. جملة معطوفة على جملة: {اقرأ باسم ربك} فلها حكم الاستئناف، و{ربك} مبتدأ وخبره إما {الذي علم بالقلم} وإما جملة: {علم الإنسان ما لم يعلم}. وهذا الاستئناف بياني. فإذا نظرتَ إلى الآية مستقلة عما تضمنه حديث عائشة في وصف سبب نزولها كان الاستئناف ناشئاً عن سؤال يجيش في خاطر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول: كيف أقرأ وأنا لا أحسن القراءة والكتابة، فأجيب بأن الذي علم القراءة بواسطة القلم، أي بواسطة الكتابة يعلمك ما لم تعلم. وإذا قرنت بين الآية وبين الحديث المذكور كان الاستئناف جواباً عن قوله لجبريل: «ما أنا بقارئ» فالمعنى: لا عجب في أن تقرأ وإن لم تكن من قبل عالماً بالقراءة إذ العلم بالقراءة يحصل بوسائل أخرى مثل الإِملاء والتلقين والإِلهام وقد علم الله آدم الأسماء ولم يكن آدم قارئاً. ومقتضى الظاهر: وعَلَّم بالقلم. فعُدل عن الإِضمار لتأكيد ما يشعر به {ربّك} من العناية المستفادة من قوله: {اقرأ باسم ربك} وأن هذه القراءة شأن من شؤون الرب اختص بها عبدَه إتماماً لنعمة الربوبية عليه. وليجري على لفظ الرب وصفُ الأكرم. ووصف {الأكرم} مصوغ للدلالة على قوة الاتصاف بالكرم وليس مصوغاً للمفاضلة فهو مسلوب المفاضلة. والكرم: التفضل بعطاء ما ينفع المعطَى، ونعم الله عظيمة لا تُحصى ابتداء من نعمة الإِيجاد، وكيفية الخلق، والإِمداد. وقد جمعت هذه الآيات الخمسُ من أول السورة أصول الصفات الإلهية فوَصفُ الرب يتضمن الوجود والوحدانية، ووصف {الذي خلق} ووصف {الذي علم بالقلم} يقتضيان صفات الأفعال، مع ما فيه من الاستدلال القريب على ثبوت ما أشير إليه من الصفات بما تقتضيه الموصولية من الإِيماء إلى وجه بناء الخبر الذي يذكر معها. ووصف {الأكرم} يتضمن صفات الكمال والتنزيه عن النقائص. ومفعولا {علم بالقلم} محذوفان دل عليهما قوله: {بالقلم} وتقديره: علّم الكاتبين أو علّم ناساً الكتابة، وكان العرب يعظمون علم الكتابة ويعدونها من خصائص أهل الكتاب كما قال أبو حية النُّميري: كما خُطّ الكتابُ بكفِّ يَوماً *** يَهُودِيَ يقارِب أو يُزيل ويتفاخر من يعرف الكتابة بعِلمه وقال الشاعر: تعلّمْتُ بَاجَاد وآل *** مُرَامِرٍ وسوَّدت أثوابي ولستُ بكاتب وذُكر أن ظهور الخط في العرب أول ما كان عند أهل الأنبار، وأدخل الكتابة إلى الحجاز حربُ بن أمية تعلمه من أسْلم بن سدرة وتعلمه أسلم من مُرامِر بن مُرة وكان الخط سابقاً عند حمير باليمن ويسمى المُسْنَد. وتخصيص هذه الصلة بالذكر وجعلُها معترضة بين المبتدإ والخبر للإِيماء إلى إزالة ما خطر ببال النبي صلى الله عليه وسلم من تعذر القراءة عليه لأنه لا يعلم الكتابة فكيف القراءةُ إذْ قال للملك: «ما أنا بقارئ» ثلاث مرات، لأن قوله: " ما أنا بقارئ " اعتذار عن تعذر امتثال أمره بقوله: {اقرأ}؛ فالمعنى أن الذي علّم الناس الكتابة بالقلم والقراءة قادر على أن يعلمك القراءة وأنت لا تعلم الكتابة. والقلم: شَظيَّة من قصب ترقق وتثقّف وتبرى بالسكيننِ لتكون ملساء بين الأصابع ويجعلُ طرفها مشقوقاً شقاً في طول نصف الأنملة، فإذا بلّ ذلك الطرف بسائل المداد يخُط به على الورق وشبهه، وقد تقدم عند قوله تعالى: {إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم} في سورة آل عمران (44). وجملة: علم الإنسان ما لم يعلم} خبر عن قوله: {وربك الأكرم} وما بينهما اعتراض. وتعريف {الإنسان} يجوز أن يكون تعريف الجنس فيكون ارتقاء في الإِعلام بما قدره الله تعالى من تعليم الإِنسان بتعميم التعليم بعد تخصيص التعليم بالقلم. وقد حصلتْ من ذكر التعليم بالقلم والتعليم الأعم إشارة إلى ما يتلقاه الإنسان من التعاليم سواء كان بالدرس أم بمطالعة الكتب وأن تحصيل العلوم يعتمد أموراً ثلاثة: أحدها: الأخذ عن الغير بالمراجعة، والمطالعة، وطريقهما الكتابة وقراءة الكتب فإن بالكتابة أمكن للأمم تدوين آراء علماء البشر ونقلها إلى الأقطار النائية وفي الأجيال الجائية. والثاني: التلقي من الأفواه بالدرس والإِملاء. والثالث: ما تنقدح به العقول من المستنبطات والمخترعات. وهذان داخلان تحت قوله تعالى: {علم الإنسان ما لم يعلم}. وفي ذلك اطمئنان لنفس النبي صلى الله عليه وسلم بأن عدم معرفته الكتابة لا يحول دون قراءته لأن الله علّم الإنسان ما لم يعلم، فالذي علّم القراءة لأصحاب المعرفة بالكتابة قادر على أن يعلمك القراءة دون سبق معرفة بالكتابة. وأشعر قوله: {ما لم يعلم} أن العلم مسبوق بالجهل فكل علم يحصل فهو علم ما لم يكن يُعلَم من قبل، أي فلا يُؤْيِسَنَّك من أن تصير عالماً بالقرآن والشريعة أنك لا تعرف قراءة ما يكتب بالقلم. وفي الآية إشارة إلى الاهتمام بعلم الكتابة وبأن الله يريد أن يُكتَب للنبيء صلى الله عليه وسلم ما ينزل عليه من القرآن فمن أجل ذلك اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً للوحي من مبدإ بعثته. وفي الاقتصار على أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالقراءة ثم إخباره بأن الله علّم الإنسان بالقلم إيماء إلى استمرار صفة الأمية للنبيء صلى الله عليه وسلم لأنّها وصف مكمِّل لإعجاز القرآن قال تعالى: {وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون} [العنكبوت: 48]. وهذه آخر الخمس الآيات التي هي أول ما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء.
{كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10)} استئناف ابتدائي لظهور أنه في غرض لا اتصال له بالكلام الذي قبله. وحرف {كلاّ} ردع وإبطال، وليس في الجملة التي قبله ما يحتمل الإِبطال والردع، فوجود {كلا} في أول الجملة دليل على أن المقصود بالردع هو ما تضمنه قوله: {أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى} الآية. وحقُّ {كلاّ} أن تقع بعد كلام لإِبطاله والزجر عن مضمونه، فوقوعها هنا في أول الكلام يقتضي أن معنى الكلام الآتي بعدها حقيق بالإِبطال وبردع قائله، فابتدئ الكلام بحرف الردع للإِبطال، ومن هذا القبيل أن يفتتح الكلام بحرف نفي ليس بعده ما يصلح لأن يَلي الحرف كما في قول امرئ القيس: فلا وأبيككِ ابْنة العَامِر يّ لا يدَّعي القومُ أنّي أفِرّ رَوى مسلم عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: «قال أبو جهل: هل يَعْفِرُ محمد وجهه (أي يسجد في الصلاة) بين أظهركم؟ فقيل: نعم، فقال: واللاتتِ والعزى لئن رأيتُه يفعل ذلك لأطَأنَّ على رقبته فأتَى رسولَ الله وهو يصلي زعَم لِيطأ على رقبته فما فجأهم منه إلا وهو يَنْكص على عقبيه ويتّقي بيده. فقيل له: ما لك يا أبا الحَكم؟ قال: إن بيني وبينه لخندقاً من نار وهَوْلاً وأجنحة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو دَنا مني لاختطفته الملائكة عُضْواً عضواً قال: فأنزل الله، لا ندري في حديث أبي هريرة أو شيء بلغه: {إن الإنسان ليطغى} الآيات اه. وقال الطبري: ذكر أن آية {أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى} وما بعدها نزلت في أبي جهل بن هشام وذلك أنه قال فيما بلغنا: لئن رأيت محمداً يصلي لأطأن رقبته. فجعل الطبري ما أنزل في أبي جهل مبدوءاً بقوله: {أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى}. ووجه الجمع بين الروايتين: أن النازل في أبي جهل بعضه مقصود وهو ما أوّله {أرأيت الذي ينهى} الخ، وبعضه تمهيد وتوطئة وهو: {إن الإنسان ليطغى} إلى {الرجعى}. واختلفوا في أن هذه الآيات إلى آخر السورة نزلت عقب الخمس الآيات الماضية وجعلوا مما يناكده ذِكر الصلاة فيها. وفيما روي في سبب نزولها من قول أبي جهل بناءً على أن الصلاة فُرضت ليلة الإِسراء وكانَ الإِسراء بعد البعثة بسنين، فقال بعضهم: إنها نزلت بعد الآيات الخمس الأولى من هذه السورة، ونزل بينهن قرآن آخر ثم نزلت هذه الآيات، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإلحاقها، وقال بعض آخر: ليست هذه السورة أول ما أنزل من القرآن. وأنا لا أرى مناكدة تفضي إلى هذه الحيرة والذي يستخلص من مختلف الروايات في بدء الوحي وما عَقبه من الحوادث أن الوحي فتَر بعد نزول الآيات الخمس الأوائل من هذه السورة وتلك الفترة الأولى التي ذكرناها في أول سورة الضحى، وهناك فترة للوحي هذه ذكرها ابن إسحاق بعد أن ذكر ابتداء نزول القرآن وذلك يؤذن بأنها حصلت عقب نزول الآيات الخمس الأول ولكن أقوالهم اختلفت في مدة الفترة. وقال السهيلي: كانت المدة سنتين، وفيه بعد. وليس تحديد مدتها بالأمر المهم ولكن الذي يهم هو أنا نوقن بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مدة فترة الوحي يرى جبريل ويتلقى منه وحياً ليس من القرآن. وقال السهيلي في «الروض الأنُف»: ذكر الحربي أن الصلاة قبل الإِسراء كانت صلاة قبل غروب الشمس (أي العصر) وصلاة قبل طلوعها (أي الصبح)، وقال يحيى بن سلام مثله، وقال: كان الإِسراء وفرض الصلوات الخمس قبل الهجرة بعام اه. فالوجه أن تكون الصلاة التي كان يصليها النبي صلى الله عليه وسلم صلاة غير الصلوات الخمس بل كانت هيئة غير مضبوطة بكيفية وفيها سجود لقول الله تعالى: {واسجد واقترب} [العلق: 19] يؤديها في المسجد الحرام أو غيره بمرأى من المشركين فعظم ذلك على أبي جهل ونهاه عنها. فالوجه أن تكون هذه الآيات إلى بقية السورة قد نزلت بعد فترة قصيرة من نزول أول السورة حدثت فيها صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفشا فيها خبر بدء الوحي ونزول القرآن، جرياً على أن الأصل في الآيات المتعاقبة في القراءة أن تكون قد تعاقبت في النزول إلا ما ثبت تأخره بدليل بيِّن، وجرياً على الصحيح الذي لا ينبغي الالتفات إلى خلافه من أن هذه السورة هي أول سورة نزلت. فموقع قوله: {إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى} موقع المقدمة لما يَرد بعده من قوله: {أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى} إلى قوله: {لا تطعه} [العلق: 19] لأن مضمونه كلمة شاملة لمضمون: {أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى} إلى قوله: {فليدع ناديه} [العلق: 17]. والمعنى: أن ما قاله أبو جهل ناشئ عن طغيانه بسبب غناه كشأن الإِنسان. والتعريف في {الإنسان} للجنس، أي من طبع الإنسان أن يطغى إذا أحسّ من نفسه الاستغناء، واللام مفيدة الاستغراق العرفي، أي أغلب الناس في ذلك الزمان إلا من عصمه خُلقه أو دينه. وتأكيد الخبر بحرف التأكيد ولام الابتداء لقصد زيادة تحقيقه لغرابته حتى كأنه مما يتوقع أن يشك السامع فيه. والطغيان: التعاظم والكبر. والاستغناء: شدة الغنى، فالسين والتاء فيه للمبالغة في حصول الفعل مثل استجاب واستقر. و {وَأنْ رآه} متعلق ب«يطغى» بحذف لام التعليل لأن حذف الجار مع (أنْ) كثير شائع، والتقدير: إنّ الإِنسان ليطغى لرؤيته نفسه مستغنياً. وعلة هذا الخُلق أن الاستغناء تحدث صاحبَه نفسُه بأنه غير محتاج إلى غيره وأن غيره محتاج فيرى نفسه أعظم من أهل الحاجة ولا يزال ذلك التوهم يربو في نفسه حتى يصير خلقاً حيث لا وازع يزعه من دين أو تفكير صحيح فيطغى على الناس لشعوره بأنه لا يخاف بأسهم لأن له ما يدفع به الاعتداء من لأمةِ سلاححٍ وخدممٍ وأعوان وعُفاة ومنتفعين بماله من شركاء وعمال وأُجراء فهو في عزة عند نفسه. فقد بينت هذه الآية حقيقةً نفسية عظيمة من الأخلاق وعلم النفس. ونبهت على الحذر من تغلغلها في النفس. وضمير {رآه} المستتر المرفوع على الفاعلية وضميرُه البارز المنصوب على المفعولية كلاهما عائد إلى الإِنسان، أي أن رأى نفسه استغنى. ولا يجتمع ضميران متحدا المعاد: أحدهما فاعل، والآخر مفعول في كلام العرب، إلا إذا كان العامل من باب ظن وأخواتها كما في هذه الآية، ومنه قوله تعالى: {قال أرأيتك هذا الذي كرمت عليَّ} في سورة الإسراء (62). قال الفراء: والعرب تطرح النفس من هذا الجنس (أي جنس أفعال الظن والحسبان) تقول: رأيتُني وحسبتُني، ومتى تَراك خارجاً، ومتى تظُنك خارجاً، وألحقت (رأى) البصرية ب (رأى) القلبية عند كثير من النحاة كما في قول قطري بن الفجاءة: فلقد أراني للرِّمَاح دَريئة *** من عن يميني مرة وأمامي ومن النادر قول النّمر بن تَوْلَب: قد بِتُّ أحْرُسُنِي وَحْدِي وَيَمْنَعُنِي *** صوتُ السباع به يضبَحْن والْهامِ وقرأ الجميع أن رآه} بألف بعد الهمزة، وروى ابن مجاهد عن قنبل أنه قرأه عن ابن كثير «رأه» بدون ألف بعد الهمزة، قال ابن مجاهد: هذا غلط ولا يعبأ بكلام ابن مجاهد بعد أن جزم بأنه رواه عن قنبل، لكن هذا لم يروه غير ابن مجاهد عن قنبل فيكون وجهاً غريباً عن قنبل. وأُلحق بهذه الأفعال: فعل فقَدَ وفعل عَدِم إذا استعملا في الدعاء نحو قول القائل: فقَدْتُني وعَدِمْتُني. وجملة: {إن إلى ربك الرجعى} معترضة بين المقدمة والمقصد والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم أي مرجع الطاغي إلى الله، وهذا موعظة وتهديد على سبيل التعريض لمن يسمعه من الطغاة، وتعليم للنبيء صلى الله عليه وسلم وتثبيت له، أي لا يحزنك طغيان الطاغي فإن مرجعه إليّ، ومرجع الطاغي إلى العذاب قال تعالى: {إن جهنم كانت مرصاداً للطاغين مئاباً} [النبأ: 21، 22] وهي موعظة للطاغي بأن غناه لا يدفع عنه الموت، والموت: رجوع إلى الله كقوله: {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه} [الانشقاق: 6]. وفيه معنى آخر وهو أن استغناءه غير حقيقي لأنه مفتقر إلى الله في أهم أموره ولا يدري ماذا يصيِّره إليه ربُّه من العواقب فلا يَزْدَهِ بغنًى زائف في هذه الحياة فيكون: {الرجعى} مستعملاً في مجازه، وهو الاحتياج إلى المرجوع إليه، وتأكيد الخبر ب (إن) مراعى فيه المعنى التعريضي لأن معظم الطغاة ينسون هذه الحقيقة بحيث يُنزَّلون منزلة من ينكرها. و {الرجعى}: بضم الراء مصدر رجع على زنة فُعلى مثل البُشرى. وتقديم {إلى ربك} على {الرجعى} للاهتمام بذلك. وجملة: {أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى} إلى آخرها هي المقصود من الردع الذي أفاده حرف {كلاّ}، فهذه الجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً متصلاً باستئناف جملة: {إن الإنسان ليطغى}. و {الذي ينهى} اتفقوا على أنه أريد به أبو جهل إذ قال قولاً يريد به نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في المسجد الحرام فقال في ناديه: لئن رأيت محمداً يصلي في الكعبة لأطَأنَّ على عنقه. فإنه أراد بقوله ذلك أن يبلُغ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهو تهديد يتضمن النهي عن أن يصلي في المسجد الحرام ولم يروَ أنه نهاه مشافهة. و {أرأيت} كلمة تعجيب من حاللٍ، تُقال للذي يُعْلَم أنه رأى حالاً عجيبة. والرؤية علمية، أي أعلمت الذي ينهى عبداً والمستفهم عنه هو ذلك العلم، والمفعول الثاني ل«رأيت» محذوف دل عليه قوله في آخر الجمل {ألم يعلم بأن الله يرى} [العلق: 14]. والاستفهام مستعمل في التعجيب لأن الحالة العجيبة من شأنها أن يستفهم عن وقوعها استفهام تحقيق وتثبيت لِنَبئها إذ لا يكاد يصدق به، فاستعمال الاستفهام في التعجيب مجاز مرسل في التركيب. ومجيء الاستفهام في التعجيب كثير نحو {هل أتاك حديث الغاشية} [الغاشية: 1]. والرؤية علمية، والمعنى: أعجب ما حصل لك من العلم قال الذي ينهى عبداً إذا صلى. ويجوز أن تكون الرؤية بصرية لأنها حكاية أمر وقع في الخارج والخطاب في {أرأيت} لغير معيّن. والمراد بالعبد النبي صلى الله عليه وسلم وإطلاق العبد هنا على معنى الواحد من عباد الله أيّ شَخْصصٍ كما في قوله تعالى: {بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد} [الإسراء: 5]، أي رجالاً. وعدل عن التعبير عنه بضمير الخطاب لأن التعجيب من نفس النهي عن الصلاة بقطع النظر عن خصوصية المصلّي. فشموله لنهيه عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم أوقع، وصيغة المضارع في قوله: {ينهى} لاستحضار الحالة العجيبة وإلا فإن نهيه قد مضى. والمنهي عنه محذوف يغني عنه تعليق الظرف بفعل {ينهى} أي نهاه عن صلاته.
{أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12)} تعجيب آخر من حاللٍ مفروض وقوعُه، أي أتظنه ينهى أيضاً عبداً مُتمكناً من الهدى فتَعْجَبَ من نهيه. والتقدير: أرأيته إن كان العبد على الهدى أينهاه عن الهدى، أو إن كان العبد آمراً بالتقوى أينهاه عن ذلك. والمعنى: أن ذلك هو الظن به فيعجّب المخاطب من ذلك لأن من ينهى عن الصلاة وهي قربةٌ إلى الله فقد نهى عن الهدى، ويوشك أن ينهى عن أن يأمر أحدٌ بالتقوى. وجواب الشرط محذوف وأتى بحرف الشرط الذي الغالب فيه عدم الجزم بوقوع فعل الشرط مُجاراة لحال الذي ينهى عبداً. والرؤية هنا علمية، وحُذف مفعولا فعل الرؤية اختصاراً لدلالة {الذي ينهى} [العلق: 9] على المفعول الأول ودلالة {ينهى} على المفعول الثاني في الجملة قبلها. و {على} للاستعلاء المجازي وهو شدّة التمكن من الهُدى بحيث يشبه تمكنَ المستعلِي على المكان كما تقدم في قوله تعالى: {أولئك على هدى من ربهم} [لقمان: 5]. فالضميرَاننِ المستتَران في فعلَي {كان على الهدى أو أمر بالتقوى} عائدان إلى {عبداً} وإن كانت الضمائر الحافّة به عائدة إلى {الذي ينهى عبداً إذا صلى} [العلق: 9، 10] فإن السياق يرد كل ضمير إلى معاده كما في قول عباس بن مرداس: عُدنا ولولا نَحْنُ أحدقَ جمعُهم *** بالمسلمين وأحرَزوا ما جَمَّعوا والمفعول الثاني لفعل «رأيتَ» محذوف دل عليه قوله: {ألم يعلم بأن الله يرى} [العلق: 14] أو دل عليه قوله: {ينهى} المتقدم. والتقدير: أرأيته. وجواب: {إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى} محذوف تقديره: أينهاه أيضاً. وفُصِلت جملة: {أرأيت إن كان على الهدى} لوقوعها موقع التكرير لأن فيها تكريرَ التَّعجيب من أحوال عديدة لشخص واحد.
{أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14)} جملة مستأنفة للتهديد والوعيد على التكذيب والتولي، أي إذا كذب بما يُدعى إليه وتولى أتظنه غيرَ عالم بأن الله مطلع عليه. فالمفعول الأول ل«رأيتَ» محذوف وهو ضمير عائد إلى {الذي ينهى} [العلق: 9] والتقدير: أرأيتَه إن كذب... إلى آخره. وجواب {إن كذب وتولى} هو {ألم يعلم بأن الله يرى} كذا قدر صاحب «الكشاف»، ولم يعتبر وجوب اقتران جملة جواب الشرط بالفاء إذا كانت الجملة استفهامية. وصرح الرضي باختيار عدم اشتراط الاقتران بالفاء ونظَّره بقوله تعالى: {قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون} [الأنعام: 47] فأما قول جمهور النحاة والزمخشري في «المفصَّل» فهو وجوب الاقتران بالفاء، وعلى قولهم يتعين تقدير جَواب الشرط بما يدل عليه: {ألم يعلم بأن الله يرى} والتقدير: إن كذب وتولى فالله عالم به، كناية عن توعده، وتكون جملة: {ألم يعلم بأن الله يرى} مستأنفة لإِنكار جهل المكذب بأن الله سيعاقبه، والشرطُ وجوابه سادّان مسدّ المفعول الثاني. وكني بأن الله يرى عن الوعيد بالعقاب. وضمن فعل {يعلم} معنى يوقنْ فلذلك عُدي بالباء. وعلق فعل {أرأيت} هنا عن العمل لوجود الاستفهام في قوله: {ألم يعلم}. والاستفهام إنكاري، أي كان حقه أن يعلم ذلك ويقي نفسه العقاب. وفي قوله: {إن كذب وتولى} إيذان للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن أبا جهل سيكذبه حين يدعوه إلى الإِسلام وسيتولى، ووعْد بأن الله ينتصف له منه. وضمير {كذب وتولى} عائد إلى {الذي ينهى عبداً إذا صلى} [العلق: 9، 10]، وقرينة المقام ترجِّع الضمائر إلى مراجعها المختلفة. وحذف مفعول {كذب} لدلالة ما قبله عليه. والتقدير: إن كذبه، أي العبدَ الذي صلى، وبذلك انتظمت الجمل الثلاث في نسبة معانيها إلى الذي ينهَى عبداً إذا صلى وإلى العبد الذي صلى، واندفعت عنك ترددات عرضت في التفاسير. وحُذف مفعول {يرى} ليعمّ كل موجود، والمراد بالرؤية المسندة إلى الله تعالى تعلق علمه بالمحسوسات.
{كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16)} {يرى}. أكّد الردع الأول بحرف الردع الثاني في آخر الجملة وهو المَوْقع الحقيق لِحرف الردع إذْ كان تقديم نظيره في أول الجملة، لِما دعا إليه لمقام من التشويق. {كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بالناصية * نَاصِيَةٍ}. أعقب الردع بالوعيد على فعله إذا لم يرتدع وينته عنه. واللام موطئة للقسم، وجملة «لنسفَعَنْ» جواب القسم، وأما جواب الشرط فمحذوف دل عليه جواب القَسَم. والسفْع: القبض الشديد بجَذْب. والناصية مقدَّم شعر الرأس، والأخذ من الناصية أخذُ من لا يُترك له تَمَكُّنٌ من الانفلات فهو كناية عن أخذه إلى العذاب، وفيه إذلال لأنهم كانوا لا يقبضون على شعر رأس أحد إلاّ لضربه أو جرّه. وأكدَ ذلك السفع بالباء المزيدة الداخلة على المفعول لتأكيد اللصوق. والنون نون التوكيد الخفيفة التي يكثر دخولها في القسم المثبَت، وكتبت في المصحف ألِفاً رعياً للنطق لها في الوقف لأن أواخر الكلِم أكثر ما ترسم على مراعاة النطق في الوقف. والتعريف في «الناصية» للعهد التقديري، أي بناصيته، أي ناصية الذي ينهى عبداً إذا صلى وهذه اللام هي التي يسميها نحاة الكوفة عوضاً عن المضاف إليه. وهي تسمية حسنة وإن أباها البصريون فقدروا في مثله متعلِّقاً لمدخول اللام. و {ناصية} بدل من الناصية وتنكيرها لاعتبار الجنس، أي هي من جنس ناصية كاذبة خاطئة. و {خاطئة} اسم فاعل من خَطِئ من باب عَلِم، إذا فعل خطيئَة، أيْ ذنْباً، ووصفُ الناصية بالكاذبة والخاطئة مجاز عقلي. والمراد: كاذب صاحبُها خاطِئ صاحبها، أي آثم. ومُحَسِّن هذا المجازَ أنّ فيه تخييلاً بأن الكذب والخِطءَ بَاديان من ناصيته فكانت الناصية جديرة بالسفع.
{فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)} {خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزبانية} {الزبانية}. تفريع على الوعد. ومناسبة ذلك ما رواه الترمذي والنسائي عن ابن عباس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند المقام فمر به أبو جهل فقال: يا محمد ألم أنهك عن هذا، وتوعَّده، فأغلظ له رسول الله، فقال أبو جهل: يا محمد بأي شيء تهددني؟ أما والله إني لأكثر أهل هذا الوادي نادياً، فأنزل الله تعالى: {فليدع ناديه سندع الزبانية} يعني أن أبا جهل أراد بقوله ذلك تهديدَ النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يغري عليه أهل نادِيه. والنادي: اسم للمكان الذي يَجتمع فيه القوم. يقال: ندَا القومُ نَدْواً، إذ اجتَمعوا. والنَّدوة (بفتح النون) الجماعة، ويقال: نَادٍ ونَدِيّ، ولا يطلق هذا الاسمُ على المكان إلا إذا كان القوم مجتمعين فيه فإذا تفرقوا عنه فليس بنادٍ، ويقال النادي لمجلس القوم نهاراً، فأما مجلسهم في الليل فيسمى المسامر قال تعالى: {سامراً تهجرون} [المؤمنون: 67]. واتخذ قُصي لندوة قريش داراً تسمى دار الندوة حَوْل المسجد الحرام وجعلها لتشاورهم ومهماتهم وفيها يُعقد على الأزواج، وفيها تدَرَّع الجواري، أي يلبسونهن الدروع، أي الأقمصة إعلاناً بأنهن قاربْن سِن البلوغ، وهذه الدار كانت اشترتها الخيزران زوجة المنصور أبي جعفر وأدخلتْها في ساحة المسجد الحرام، وأُدخل بعضها في المسجد الحرام في زيادة عبد الملك بن مروان وبعضها في زيادة أبي جعفر المنصور، فبقيت بقيتُها بيتاً مستقلاً ونزل به المهدي سنة 160 في مدة خلافة المعتضد بالله العباسي لما زاد في المسجد الحرام جعل مكان دار الندوة مسجداً متصلاً بالمسجد الحرام فاستمر كذلك ثم هدم وأدخلت مساحته في مساحة المسجد الحرام في الزيادة التي زادها الملك سعود بن عبد العزيز ملك الحجاز ونجد سنة 1379. ويطلق النادي على الذين ينتدون فيه وهو معنى قول أبي جهل: إني لأكثر أهل هذا الوادي نَادياً، أي نَاساً يجلسون إليَّ يريد أنه رئيس يصمد إليه، وهو المعني هنا. وإطلاق النادي على أهله نظير إطلاق القرية على أهلها في قوله تعالى: {واسأل القرية} [يوسف: 82] ونظير إطلاق المجلس على أهله في قول ذي الرمة: لهم مجلسٌ صُهْب السِّبال أذلةٌ *** سَوَاسة أحرارُها وعبيدُها وإطلاق المقامة على أهلها في قول زهير: وفيهم مقامات حسان وجوههم *** وأندية ينتابها القول والفعل أي أصحاب مقامات حسان وجوههم. وإطلاق المجمع على أهله في قول لبيد: إنَّا إذا ألتقَت المجامع لم يزل *** منَّا لِزاز عظيمة جسامها الأبيات الأربعة. ولام الأمر في {فليدع ناديه} للتعجيز لأن أبا جهل هدّد النبي صلى الله عليه وسلم بكثرة أنصاره وهم أهل ناديه فردّ الله عليه بأن أمره بدعوة ناديه فإنه إن دعاهم ليسطُوا على النبي صلى الله عليه وسلم دعا الله ملائكة فأهلكوه. وهذه الآية معجزة خاصة من معجزات القرآن فإنه تحدى أبا جهل بهذا وقد سمع أبو جهل القرآن وسمعه أنصاره فلم يقدم أحد منهم على السطو على الرسول صلى الله عليه وسلم مع أن الكلام يلهب حميته. وإضافة النادي إلى ضميره لأنه رئيسهم ويجتمعون إليه قالت أعرابية: «سيدُ ناديه، وَثِمَالُ عافيهْ». وقوله: {سندع الزبانية} جواب الأمر التعجيزي، أي فإن دعا ناديَه دعوْنا لهم الزبانية ففعل {سندع} مجزوم في جواب الأمر، ولذلك كتب في المصحف بدون واو وحرف الاستقبال لتأكيد الفعل. والزبانية: بفتح الزاي وتخفيف التحتية جمع زباني بفتح الزاي وبتحتية مشددة، أو جمع زِبْنيَة بكسر الزاي فموحدة ساكنة فنون مكسورة فتحتية مخففة، أو جمع زِبْنِيّ بكسر فسكون فتحتية مشددة. وقيل: هو اسم جمع لا واحد له من لفظه مثل أبابيل وعَبَاديد. وهذا الاسم مشتق من الزبن وهو الدفع بشِدة يقال: ناقة زَبُون إذا كانت تركُل من يحلبُها، وحرب زبون يدفع بعضها بعضاً بتكرر القتال. فالزبانية الذين يزبنون الناس، أي يدفعونهم بشدة. والمراد بهم ملائكة العذاب ويطلق الزبانية على أعوان الشُّرطة. و {كَلاّ} ردع لإِبطال ما تضمنه قوله: {فليدع ناديه}، أي وليس بفاعل، وهذا تأكيد للتحدّي والتعجيز. وكتب {سندع} في المصحف بدون واو بعد العين مراعاة لحالة الوصل، لأنها ليست محل وقف ولا فاصلة. {كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ واسجد}. هذا فذلكة للكلام المتقدم من قوله: {أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى} [العلق: 9، 10]، أي لا تترك صلاتك في المسجد الحرام ولا تخش منه. وأطلقت الطاعة على الحذر الباعث على الطاعة على طريق المجاز المرسل، والمعنى: لا تخفه ولا تحذره فإنه لا يَضرك. وأكد قوله: {لا تطعه} بجملة {واسجد} اهتماماً بالصلاة. وعطف عليه {واقترب} للتنويه بما في الصلاة من مرضاة الله تعالى بحيث جعل المصلّي مقترباً من الله تعالى. والاقتراب: افتعال من القرب، عبر بصيغة الافتعال لما فيها من معنى التكلف والتطلب، أي اجتهد في القرب إلى الله بالصلاة.
{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)} اشتملت هذه الآية على تنويه عظيم بالقرآن فافتتحت بحرف (إنَّ) وبالإِخبار عنها بالجملة الفعلية، وكلاهما من طرق التأكيد والتقوّي. ويفيد هذا التقديم قصراً وهو قصر قلب للرد على المشركين الذي نفوا أن يكون القرآن منزلاً من الله تعالى. وفي ضمير العظمة وإسناد الإِنزال إليه تشريف عظيم للقرآن. وفي الإِتيان بضمير القرآن دون الاسم الظاهر إيماء إلى أنه حاضر في أذهان المسلمين لشدة إقبالهم عليه فكون الضمير دون سبق معاد إيماء إلى شهرته بينهم. فيجوز أن يراد به القرآنُ كلُّه فيكون فعل: «أنزلنا» مستعملاً في ابتداء الإِنزال لأن الذي أُنزل في تلك الليلة خمس الآيات الأول من سورة العلق ثم فتر الوحي ثم عاد إنزاله منجماً ولم يكمل إنزال القرآن إلا بعد نيف وعشرين سنة، ولكن لما كان جميع القرآن مقرراً في علم الله تعالى مقدارُه وأنه ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم منجَّماً حتى يتم، كان إنزاله بإنزال الآيات الأُول منه لأن ما ألحق بالشيء يعد بمنزلة أوله فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه " الحديث فاتفق العلماء على أن الصلاة فيما أُلْحق بالمسجد النبوي لها ذلك الفضل، وأن الطواف في زيادات المسجد الحرام يصحّ كلما اتّسع المسجد. ومن تسديد ترتيب المصحف أن وضعت سورة القدر عقب سورة العلق مع أنها أقلّ عدَد آياتتٍ من سورة البينة وسُورٍ بعدها، كأنه إماء إلى أن الضمير في {أنزلناه} يعود إلى القرآن الذي ابتدئ نزوله بسورة العلق. ويجوز أن يكون الضمير عائداً على المقدار الذي أنزل في تلك الليلة وهو الآياتُ الخمسُ من سورة العلق فإن كل جزء من القرآن يسمى قرآناً، وعلى كلا الوجهين فالتعبير بالمضي في فعل {أنزلناه} لا مجاز فيه. وقيل: أطلق ضمير القرآن على بعضه مجازاً بعلاقة البعضية. والآية صريحة في أن الآيات الأوَل من القرآن نزلت ليلاً وهو الذي يقتضيه حديث بَدْء الوحي في «الصحيحين» لقول عائشة فيه: «فكان يتحنث في غار حراء اللياليَ ذواتتِ العَدَد» فكان تعبده ليلاً، ويظهر أن يكون الملك قد نزل عليه أثر فراغه من تعبده، وأما قول عائشة: «فرجع بها رسول الله يرجف فُؤاده» فمعناه أنه خرج من غار حراء إثر الفجر بعد انقضاء تلقينه الآيات الخمس إذ يكون نزولها عليه في آخر تلك الليلة وذلك أفضل أوقات الليل كما قال تعالى: {والمستغفرين بالأسحار} [آل عمران: 17]. وليلة القدر: اسم جعله الله للَّيلة التي ابتدئ فيها نزول القرآن. ويظهر أن أول تسميتها بهذا الاسم كان في هذه الآية ولم تكن معروفة عند المسلمين وبذلك يكون ذكرها بهذا الاسم تشويقاً لمعرفتها ولذلك عقب بقوله: {وما أدراك ما ليلة القدر} [القدر: 2]. والقَدْر الذي عُرفت الليلة بالإضافة إليه هو بمعنى الشرففِ والفضل كما قال تعالى في سورة الدخان (3): {إنا أنزلناه في ليلة مباركة} أي ليلة القدر والشرف عند الله تعالى مما أعطاها من البركة فتلك ليلة جعل الله لها شرفاً فجعلها مظهراً لما سبق به علمه فجعلها مبدأ الوحي إلى النبي. والتعريف في القدر} تعريف الجنس. ولم يقل: في ليلةِ قدرٍ، بالتنكير لأنه قُصد جعل هذا المركب بمنزلة العلَم لتلك الليلة كالعلَم بالغلبة، لأن تعريف المضاف إليه باللام مع تعريف المضاف بالإِضافة أوْغَلُ في جعل ذلك المركب لَقَباً لاجتماع تعريفين فيه. وقد ثبت أن ابتداء نزول القرآن كان في شهر رمضان قال تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان} [البقرة: 185]. ولا شك أن المسلمين كانوا يعلمون ذلك إذ كان نزول هذه السورة قبل نزول سورة البقرة بسنين إن كانت السورة مكية أو بمُدة أقل من ذلك إن كانت السورة مدنية، فليلة القدر المرادة هنا كانت في رمضان وتأيد ذلك بالأخبار الصحيحة من كونها من ليالي رمضان في كل سنة. وأكثر الروايات أن الليلة التي أنزل فيها القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم كانت ليلةَ سَبْع عشرة من رمضان. وسيأتي في تفسير الآيات عقب هذه الكلامُ في هل ليلة ذات عدد متماثل في جميع الأعوام أو تختلف في السنين؟ وفي هل تقع في واحدة من جميع ليالي رمضان أو لا تخرج عن العشر الأواخر منه؟ وهل هي مخصوصة بليلة وترٍ كما كانت أول مرّة أوْ لا تختص بذلك؟ والمقصود من تشريف الليلة التي كان ابتداء إنزال القرآن فيها تشريف آخر للقرآن بتشريف زمان ظهوره، تنبيهاً على أنه تعالى اختار لابتداء إنزاله وقتاً شريفاً مباركاً لأن عظم قدر الفعل يقتضي أن يُختار لإِيقاعه فَضْل الأوقات والأمكنة، فاختيار فضللِ الأوقات لابتداء إنزاله ينبئ عن علوّ قدره عند الله تعالى كقوله: {لا يمسه إلا المطهرون} [الواقعة: 79] على الوجهين في المراد من المطهرين.
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2)} تنويه بطريق الإِبهام المراد به أن إدراك كنهها ليس بالسهل لما ينطوي عليه من الفضائل الجمّة. وكلمة (ما أدراك ما كذا) كلمة تقال في تفخيم الشيء وتعظيمه، والمعنى: أيُّ شيء يُعَرِّفك ما هي ليلة القدر، أي يعسر على شيءٍ أن يعرِّفك مقدارَها، وقد تقدمت غير مرة منها، قوله: {وما أدراك ما يوم الدين} في سورة الانفطار (17) قريباً. والواو واو الحال. وأعيد اسم لَيْلَةُ القدر} الذي سَبق قريباً في قوله: {في ليلة القدر} [القدر: 1] على خلاففِ مقتضى الظاهر لأن مقتضى الظاهر الإِضمارُ، فقُصِد الاهتمامُ بتعيينها، فحصل تعظيم ليلة القدر صريحاً، وحصلت كناية عن تعظيم ما أنزل فيها وأن الله اختار إنزاله فيها ليتطابق الشرفان.
{لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)} بيان أولُ لشيءٍ من الإِبهام الذي في قوله: {وما أدراك ما ليلة القدر} [القدر: 2] مثلُ البيان في قوله: {وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام} [البلد: 12، 14] الآية. فلذلك فصلت الجملة لأنها استئناف بياني، أو لأنها كعطف البيان. وتفضيلها بالخَيْر على ألف شهر. إنما هو بتضعيف فضل ما يحصل فيها من الأعمال الصالحة واستجابة الدعاء ووفرة ثواب الصدقات والبركة للأمة فيها، لأن تفاضل الأيام لا يكون بمقادير أزمنتها ولا بما يحدث فيها من حَر أو برد، أو مطر، ولا بطولها أو بقصرها، فإن تلك الأحوال غير معتدّ بها عند الله تعالى ولكن الله يعبأ بما يحصل من الصلاح للناس أفراداً وجماعات وما يعين على الحق والخير ونشر الدين. وقد قال في فضل الناس: {إن أكرمكم عند اللَّه أتقاكم} [الحجرات: 13] فكذلك فضل الأزمان إنما يقاس بما يحصل فيها لأنها ظروف للأعمال وليست لها صفات ذاتية يمكن أن تتفاضل بها كتفاضل الناس ففضلها بما أعدّه الله لها من التفضيل كتفضيل ثلث الليل الأخير للقربات وعدد الألف يظهر أنه مستعمل في وفرة التكثير كقوله: «واحد كألف» وعليه جاء قوله تعالى: {يود أحدهم لو يعمر ألف سنة} [البقرة: 96] وإنما جعل تمييز عدد الكثرة هنا بالشهر للرعي على الفاصلة التي هي بحرف الراء. وفي «الموطإ»: «قال مالك إنه سمع من يثق به من أهل العلم يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أري أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك فكأنه تقاصر أعمارَ أمته أن لا يبلغُوا من العمَل مثلَ ما بلغ غيرهم في طول العُمر فأعطاه الله {ليلة القدر خير من ألف شهر} اه. وإظهار لفظ {لَيْلَةُ القدر} في مقام الإِضمار للاهتمام، وقد تكرر هذا اللفظ ثلاث مرات والمرات الثلاث ينتهي عندها التكرير غالباً كقوله تعالى: {وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب} [آل عمران: 78]. وقول عديّ: لا أرى الموتَ يسبق الموتَ شيءٌ *** نَغَّص الموتُ ذا الغنى والفقيرا ومما ينبغي التنبه له ما وقع في «جامع الترمذي» بسنده إلى القاسم بن الفضل الحُدَّاني عن يوسف بن سَعد قال: «قام رجل إلى الحسن بن علي بعدما بايع معاوية فقال: سَّوَدتَ وجوهَ المؤمنين، أوْ يا مُسوِّد وجوهِ المؤمنين فقال: لا تؤنبني رَحمك الله فإن النبي صلى الله عليه وسلم أري بني أمية على منبره فساءه ذلك فنزلت: {إنا أعطيناك الكوثر} [الكوثر: 1] يا محمّد يعني نهراً في الجنة، ونزلت: {إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر} [القدر: 1 3] يملكها بنو أمية يا محمدُ قال القاسم: فعددناها فإذا هي ألف شهر لا يَزيدُ يومٌ ولا ينقص». قال أبو عيسى الترمذي، هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وقد قيل عن القاسم بن الفضل عن يوسف بن مازِن نعرفه والقاسم بن الفضل ثقة ويُوسف بن سَعْد رجل مجهول اه. قال ابن كثير في «تفسيره» ورواه ابن جرير من طريق القاسم بن الفضل عن عيسى بن مازن كذا قال، وعيسى بن مازن غير معروف، وهذا يقتضي اضطراباً في هذا الحديث، أي لاضطرابهم في الذي يروي عنه القاسم بن الفضل، وعلى كل احتمال فهو مجهول. وأقول: وأيضاً ليس في سنده ما يفيد أن يوسف بن سعد سمع ذلك من الحسن رضي الله عنه. وفي «تفسير الطبري» عن عيسى بن مازن أنه قال: قلت للحسن: يا مسود وجوه المؤمنين إلى آخر الحديث. وعيسى بن مازن غير معروف أصلاً فإذا فرضنا توثيق يوسف بن سعد فليس في روايته ما يقتضي أنه سمعه بل يجوز أن يكون أراد ذكر قصة تُروى عن الحسن. واتفق حذاق العلماء على أنه حديث منكر صرح بذلك ابن كثير وذكره عن شيخه المزي، وأقول: هو مختل المعنى وسمات الوضع لائحة عليه وهو من وضع أهل النحَل المخالفةِ للجماعة فالاحتجاجُ به لا يليق أن يصدر مثله عن الحسن مع فرط علمه وفطنته، وأيَّة ملازمة بين ما زعموه من رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين دفع الحسن التأنيب عن نفسه، ولا شك أن هذا الخبر من وضع دُعاة العباسيين على أنه مخالف للواقع لأن المدة التي بين تسليم الحسن الخلافة إلى معاوية وبين بيعة السفاح وهو أول خلفاء العباسية ألف شهر واثنان وتسعون شهراً أو أكثر بشهر أو بشهرين فما نُسب إلى القاسم الحُدَّاني من قوله: فعددناها فوجدناها الخ كذب لا محالة. والحاصل أن هذا الخبر الذي أخرجه الترمذي منكر كما قاله المِزِّي. قال ابن عرفة وفي قوله: {ليلة القدر خير من ألف شهر} المحسن المسمّى تَشابه الأطراف وهو إعادة لفظ القافية في الجملة التي تليها كقوله تعالى: {كمشكاة فيها مصباح المصباحُ في زجاجة الزجاجةُ كأنها كوكب دري} [النور: 35] اه. يريد بالقافية ما يشمل القرينة في الأسجاع والفواصلَ في الآي، ومثاله في الشعر قول ليلى الأخيلية: إذا نزل الحجاج أرضاً مريضة *** تتبع أقصى دائها فشفاها شفاها من الداء العضال الذي بها *** غلامٌ إذا هز القناة سقاها الخ {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)} إذا ضُم هذا البيان الثاني لما في قوله: {وما أدراك ما ليلة القدر} [القدر: 2] من الإِبهام التفخيمي حصل منهما ما يدل دلالةً بيّنة على أن الله جعل مثل هذه الفضيلة لكل ليلة من ليالي الأعوام تقع في مثل الليلة من شهر نزول القرآن كرامةً للقرآن، ولمن أنزل عليه، وللدِّين الذي نزل فيه، وللأمة التي تتبعه، ألا ترى أن معظم السورة كان لذكر فضائل ليلة القدر فما هو إلا للتحريض على تطلب العمل الصالح فيها، فإن كونها خيراً من ألف شهر أومأ إلى ذلك وبينته الأخبار الصحيحة. والتعبير بالفعل المضارع في قوله: {تنزل الملائكة} مؤذن بأن هذا التنزل متكرر في المستقبل بعد نزول هذه السورة. وذِكر نهايتها بطلوع الفجر لا أثرَ له في بيان فضلها فتعين أنه إدماج للتعريف بمنتهاهَا ليحرص الناسُ على كثرة العمل فيها قبل انتهائها. لا جرم أن ليلة القدر التي ابتدئ فيها نزول القرآن قد انقضت قبل أن يشعر بها أحد عدا محمد صلى الله عليه وسلم إذْ كان قد تحنث فيها، وأنزل عليه أول القرآن آخرها، وانقلب إلى أهله في صبيحتها، فلولا إرادة التعريف بفضل الليالي الموافقة لها في كل السنوات لاقتُصر على بيان فضل تلك الليلة الأولى ولما كانت حاجة إلى تَنزّل الملائكة فيها، ولا إلى تعيين منتهاها. وهذا تعليم للمسلمين أن يَعظموا أيام فضلهم الديني وأيام نَعم الله عليهم، وهو مماثل لما شرع الله لموسى من تفضيل بعض أيام السنين التي توافق أياماً حصلت فيها نعم عظمى من الله على موسى قال تعالى: {وذكرهم بأيام اللَّه} [إبراهيم: 5] فينبغي أن تعد ليلة القدر عيد نزول القرآن. وحكمة إخفاء تعيينها إرادةُ أن يكرر المسلمون حسناتهم في ليال كثيرة توخياً لمصادفة ليلة القدر كما أخفيت ساعةُ الإِجابة يوم الجمعة. هذا محصّل ما أفاده القرآن في فضل ليلة القدر من كل عام ولم يبين أنها أيَّةُ ليلة، ولا من أي شهر، وقد قال تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} [البقرة: 185] فتبين أن ليلة القدر الأولى هي من ليالي شهر رمضان لا محالة، فبنا أن نتطلب تعيين ليلة القدر الأولى التي ابتدِئ إنزال القرآن فيها لنطلب تعيين ما يماثلها من ليالي رمضان في جميع السّنين، وتعيين صفة المماثلة، والمماثلةُ تكون في صفات مختلفة فلا جائز أن تُماثلها في اسم يومها نحو الثلاثاء أو الأربعاء، ولا في الفصل من شتاءٍ أو صيف أو نحو ذلك مما ليس من الأحوال المعتبرة في الدين، فعلينا أن نتطلب جهة من جهات المماثلة لها في اعتبار الدين وما يرضي الله. وقد اختُلف في تعيين المماثلة اختلافاً كثيراً وأصح ما يعتمد في ذلك: أنها من ليالي شهر رمضان من كل سنة وأنها من ليالي الوتر كما دل عليه الحديث الصحيح: «تحروا ليلة القدر في الوتر في العشر الأواخر من رمضان». والوتر: أفضل الأعداد عند الله كما دل عليه حديث: «إن الله وِتر يحب الوتر». وأنّها ليست ليلة معينة مطّردة في كل السنين بل هي متنقلة في الأعوام، وأنها في رمضان وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وأحمد وأكثر أهل العلم قال ابن رشيد: وهو أصح الأقاويل وأوْلاها بالصواب. وعلَى أنها متنقلة في الأعوام فأكثر أهل العلم على أنها لا تخرج عن شهر رمضان. والجمهور على أنها لا تخرج عن العشر الأواخر منه، وقال جماعة: لا تخرج عن العَشْر الأوَاسط، والعَشْر الأواخر. وتأوّلوا ما ورد من الآثار ضبطها على إرادة الغالب أو إرادة عام بعينه. ولم يرد في تعيينها شيء صريح يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم لأن ما ورد في ذلك من الأخبار محتمل لأن يكون أراد به تعيينها في خصوص السنة التي أخبر عنها وذلك مبسوط في كتب السنة فلا نطيل به، وقد أتى ابن كثير منه بكثير. وحفظت عن الشيخ محي الدين بن العربي أنه ضبط تعيينها باختلاف السنين بأبيات ذكر في البيت الأخير منها قوله: وضابطها بالقول ليلة جمعةٍ *** توافيك بعد النصفْ في ليلة وتر حفظناها عن بعض مُعلمينا ولم أقف عليها. وجربنا علامة ضوء الشمس في صبيحتها فلم تتخلف. وأصل {تنزل} تتنزل فحذفت إحدى التاءَيْن اختصاراً. وظاهر أن تنزل الملائكة إلى الأرض. ونزول الملائكة إلى الأرض لأجل البركات التي تحفهم. و {الروح}: هو جبريل، أي ينزل جبريل في الملائكة. ومعنى {بإذن ربهم} أن هذا التنزل كرامة أكْرم الله بها المسلمين بأن أنزل لهم في تلك الليلة جماعات من ملائكته وفيهم أشرفهم وكان نزول جبريل في تلك الليلة ليعود عليها من الفضل مثل الذي حصل في مماثلتها الأولى ليلة نزوله بالوحي في غار حِراء. وفي هذا أصل لإِقامة المواكب لإِحياء ذكرى أيام مجد الإِسلام وفضله وأن من كان له عمل في أصل تلك الذكرى ينبغي أن لا يخلو عنه موكب البهجة بتذكارها. وقوله: {بإذن ربهم} متعلق ب {تنزل} إما بمعنى السببية، أي يتنزلون بسبب إذن ربهم لهم في النزول فالإِذن بمعنى المصدر، وإما بمعنى المصاحبة، أي مصاحبين لما أذِن به ربهم، فالإِذن بمعنى المأذون به من إطلاق المصدر على المفعول نحو: {هذا خَلْق الله} [لقمان: 11]. و {مِن} في قوله {من كل أمر} يجوز أن تكون بيانية تبين الإِذن من قوله: {بإذن ربهم}، أي بإذن ربهم الذي هو في كل أمر. ويجوز أن تكون بمعنى الباء، أي تتنزل بكل أمر مِثل ما في قوله تعالى: {يحفظونه من أمر اللَّه} [الرعد: 11] أي بأمر الله، وهذا إذا جعلت باء {بإذن ربهم} سببية، ويجوز أن تكون للتعليل، أي من أجل كل أمر أراد الله قضاءه بتسخيرهم. و {كل} مستعملة في معنى الكثرة للأهمية، أي في أمور كثيرة عظيمة كقوله تعالى: {ولو جاءتهم كل آية} [يونس: 97] وقوله: {يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر} [الحج: 27] وقوله: {واضربوا منهم كل بنان} [الأنفال: 12]. وقول النابغة: بها كلَّ ذيَّال وخنساءَ تَرْعوي *** إلى كل رَجَّاف من الرمل فارد وقد بينا ذلك عند قوله تعالى: {وعلى كل ضامر} في سورة الحج (27). وتنوين أمر} للتعظيم، أي بأنواع الثواب على الأعمال في تلك الليلة. وهذا الأمر غير الأمر الذي في قوله تعالى: {فيها يفرق كل أمر حكيم} [الدخان: 4] مع أن {أمراً من عندنا} في سورة الدخان (5) متحدة مع اختلاف شؤونها، فإن لها شؤوناً عديدة. ويجوز أن يكون هو الأمر المذكور هنا فيكون هنا مطلقاً وفي آية الدخان مقيداً. واعلم أن موقع قوله: تنزل الملائكة والروح فيها} إلى قوله: {من كل أمر}، من جملة: {ليلة القدر خير من ألف شهر} [القدر: 3] موقع الاستئناف البياني أو موقع بدل الاشتمال فلمراعاة هذا الموقع فصلت الجملة عن التي قبلها ولم تعطف عليها مع أنهما مشتركتان في كون كل واحدة منهما تفيد بياناً لجملة: {وما أدراك ما ليلة القدر} [القدر: 2]، فأوثرت مراعاةُ موقعها الاستئنافي أو البدلي على مراعاة اشتراكهما في كونها بياناً لجملة: {وما أدراك ما ليلة القدر} لأن هذا البيان لا يفوت السامع عند إيرادها في صورة البيان أو البدل بخلاف ما لو عطفت على التي قبلها بالواو لفوات الإِشارة إلى أن تنزل الملائكة فيها من أحوال خيريتها. وجملة: {سلام هي حتى مطلع الفجر} بيان لمضمون {من كل أمر} وهو كالاحتراس لأنّ تنزّل الملائكة يكون للخير ويكون للشر لعقاب مكذبي الرسل قال تعالى: {ما تنزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذاً منظرين} [الحجر: 8] وقال: {يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين} [الفرقان: 22]. وجُمع بين إنزالهم للخير والشر في قوله: {إذ يُوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق} [الأنفال: 12] الآية، فأخبر هنا أن تنزل الملائكة ليلة القدر لتنفيذ أمر الخير للمسلمين الذين صاموا رمضان وقاموا ليلة القدر، فهذه بشارة. والسلام: مصدر أو اسم مصدر معناه السلامة قال تعالى: {قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم} [الأنبياء: 69]. ويطلق السلام على التحية والمِدحة، وفسر السلام بالخَيْر، والمعنيان حاصلان في هذه الآية، فالسلامة تشمل كل خير لأن الخيْر سلامة من الشر ومن الأذى، فيشمل السلامُ الغفرانَ وإجزال الثواب واستجابة الدعاء بخير الدنيا والآخرة. والسلام بمعنى التحية والقول الحسن مراد به ثناء الملائكة على أهل ليلة القدر كدأبهم مع أهل الجنة فيما حكاه قوله تعالى: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار} [الرعد: 23، 24]. وتنكير {سلام} للتعظيم. وأخبر عن الليلة بأنها سلام للمبالغة لأنه إخبار بالمصدر. وتقديم المسند وهو {سلام} على المسند إليه لإِفادة الاختصاص، أي ما هي إلا سلام. والقصر ادعائي لعدم الاعتداد بما يحصل فيها لغير الصائمين القائمين، ثم يجوز أن يكون {سلام هي} مراداً به الإِخبار فقط، ويجوز أن يراد بالمصدر الأمرُ، والتقدير: سلِّمُوا سلاماً، فالمصدر بدل من الفعل وعدل عن نصبه إلى الرفع ليفيد التمكن مثل قوله تعالى: {قالوا سلاماً قال سلام} [الذاريات: 25]. والمعنى: اجعلوها سلاماً بينكم، أي لا نزاع ولا خصام. ويشير إليه ما في الحديث الصحيح: «خرجتُ لأخْبِرَكم بليلة القدر فتلاحَى رجلان فرُفِعَتْ وعسى أن يكون خيراً لكم فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة». و {حتى مطلع الفجر} غاية لما قبله من قوله: {تنزل الملائكة} إلى {سلام هي}. والمقصود من الغاية إفادة أن جميع أحيان تلك الليلة معمورة بنزول الملائكة والسلامة، فالغاية هنا مؤكدة لمدلول {ليلة} [القدر: 1] لأن الليلة قد تطلق على بعض أجزائها كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم «من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذَنْبه» أي من قام بعضها، فقد قال سعيد بن المسيب: من شهد العشاء من ليلة القدر فقد أخذ بحَظه منها. يريد شهدها في جماعة كما يقتضيه فعل شهد، فإن شهود الجماعة من أفضل الأعمال الصالحة. وجيء بحرف {حتى} لإِدخال الغاية لبيان أن ليلة القدر تمتد بعد مطلع الفجر بحيث أن صلاة الفجر تعتبر واقعة في تلك الليلة لئلا يتوهم أن نهايتها كنهاية الفِطر بآخر جزء من الليل، وهذا توسعة من الله في امتداد الليلة إلى ما بعد طلوع الفجر. ويستفاد من غاية تَنَزُّللِ الملائكة فيها، أن تلك غاية الليلة وغاية لما فيها من الأعمال الصالحة التابعة لكونها خيراً من ألف شهر، وغاية السلام فيها. وقرأ الجمهور: {مطلع} بفتح اللام على أنه مصدر ميمي، أي طلوع الفجر، أي ظهوره. وقرأه الكسائي وخَلف بكسر اللام على معنى زمان طلوع الفجر.
{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3)} استصعب في كلام المفسرين تحصيل المعنى المستفاد من هذه الآيات الأربع من أول هذه السورة تحصيلاً ينتزع من لفظها ونظمها، فذكر الفخر عن الواحدي في «التفسير البسيط» له أنه قال: هذه الآية من أصعب ما في القرآن نظماً وتفسيراً وقد تخبط فيها الكبار من العلماء. قال الفخر: «ثم إنه لم يلخص كيفية الإِشكال فيها. وأنا أقول: وجه الإِشكال أن تقدير الآية: لم يكن الذين كفروا منفكين حتى تأتيهم البينة التي هي الرسول صلى الله عليه وسلم ثم إنه تعالى لم يذكر أنهم منفكون عماذا لكنه معلوم إذ المراد هو الكفر والشرك اللذيْن كانوا عليهما فصار التقدير: لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة التي هي الرسول صلى الله عليه وسلم ثم إن كلمة {حتى} لانتهاء الغاية فهذه الآية تقتضي أنهم صاروا منفكين عن كفرهم عند إتيان الرسول صلى الله عليه وسلم ثم قال بعد ذلك: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة} [البينة: 4] وهذا يقتضي أن كفرهم قد ازداد عند مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم فحينئذ حصل بين الآية الأولى والآية الثانية مناقضة في الظاهر» اه كلام الفخر. يريد أن الظاهر أن قوله: {رسول من الله} بدل من {البينة} وأن متعلِّق {منفكين} حُذف لدلالة الكلام عليه لأنهم لما أجريت عليهم صلة الذين كفروا دل ذلك على أن المراد لم يكونوا منفكين على كفرهم، وأن حرف الغاية يقتضي أن إتيان البينة المفسِّرة ب {رسول من اللَّه} هي نهاية انعدام انفكاكهم عن كفرهم، أي فعند إتيان البينة يكونون منفكين عن كفرهم فكيف مع أن الله يقول: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة} [البينة: 4] فإن تفرقهم راجع إلى تفرقهم عن الإِسلام وهو ازدياد في الكفر إذ به تكثر شبه الضلال التي تبعث على التفرق في دينهم مع اتفاقهم في أصل الكفر، وهذا الأخير بناء على اعتبار قوله تعالى: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب} [البينة: 4] الخ كلاماً متصلاً بإعراضهم عن الإِسلام وذلك الذي درج عليه المفسرون ولنا في ذلك كلام سيأتي. ومما لم يذكره الفخر من وجه الإِشكال: أن المشاهدة دلت على أن الذين كفروا لم ينفكوا عن الكفر في زمن مَّا، وأن نصب المضارع بعد {حتى} ينادي على أنه منصوب ب (أنْ) مضمرة بعد {حتى} فيقتضي أنّ إتيان البينة مستقبل وذلك لا يستقيم فإن البينة فسرت ب {رسول من اللَّه} وإتيانْ الرسول وقع قبل نزول هذه الآيات بسنين وهم مستمرون على ما هم عليه: هؤلاء على كفرهم، وهؤلاء على شركهم. وإذ قد تقرر وجه الإِشكال وكان مظنوناً أنه ملحوظ للمفسرين إجمالاً أو تفصيلاً فقد تعين أن هذا الكلام ليس وارداً على ما يتبادر من ظاهره في مفرداته أو تركيبه، فوجب صرفه عن ظاهره، إما بصرف تركيب الخَبر عن ظاهر الإِخبار وهو إفادة المخاطَب النسبة الخبرية التي تضمنها التركيب، بأن يُصرف الخبر إلى أنه مستعمل في معنى مجازي للتركيب. وإمّا بصرف بعض مفرداته التي اشتمل عليها التركيب عن ظاهر معناها إلى معنى مجازٍ أو كناية. فمن المفسرين من سلك طريقة صرف الخبر عن ظاهره. ومنهم من أبقوا الخبر على ظاهر استعماله وسلكوا طريقة صرف بعض كلماته عن ظاهر معانيها وهؤلاء منهم من تأول لفظ {منفكين} ومنهم من تأول معنى {حتى} ومنهم من تأول {رسول}، وبعضهم جوز في {البينة} وجهين. وقد تعددت أقوال المفسرين فبلغت بضعَة عشر قولاً ذكر الآلوسي أكثرها وذكر القرطبي مُعظمها غيرَ معزُو، وتداخل بعض ما ذكره الآلوسي وزاد أحدهما ما لم يذكره الآخر. ومراجع تأويل الآية تَؤُول إلى خمسة: الأول: تأويل الجملة بأسرها بأن يُؤوَّل الخبر إلى معنى التوبيخ والتعجيب، وإلى هذا ذهب الفراء ونفطويه والزمخشري. الثاني: تأويل معنى {منفكين} بمعنى الخروج عن إمهال الله إياهم ومصيرهم إلى مؤاخذتهم، وهو لابن عطية. الثالث: تأويل متعلِّق {منفكين} بأنه عن الكفر وهو لعبد الجَبَّار، أو عن الاتفاق على الكفر وهو للفخر وأبي حيّان. أو منفكين عن الشهادة للرسول صلى الله عليه وسلم بالصدق قبل بعثته وهو لابن كيسان عبد الرحمن الملقب بالأصم، أو منفكين عن الحياة، أي هالكين، وعُزي إلى بعض اللغويين. الرابع: تأويل {حتى} أنها بمعنى (إنْ) الاتصالية. والتقدير: وإن جاءتهم البينة. الخامس: تأويل {رسول} بأنه رسول من الملائكة يتلو عليهم صحفاً من عند الله فهو في معنى قوله تعالى: {يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء} [النساء: 153] وعزاه الفخر إلى أبي مسلم وهو يقتضي صرف الخبر إلى التهكم. هذا والمراد ب {الذين كفروا من أهل الكتاب} أنهم كفروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم مثل ما في قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب} [الحشر: 11]. وأنت لا يعوزك إرجاع أقوال المفسرين إلى هذه المعاقد فلا نحتاج إلى التطويل بذكرها فدونك فراجعها إن شئت، فبنا أن نهتم بتفسير الآية على الوجه البين. إن هذه الآيات وردت مورد إقامة الحجة على الذين لم يؤمنوا من أهل الكتاب وعلى المشركين بأنهم متنصلون من الحق متعللون للإِصرار على الكفر عناداً، فلنسلك بالخَبر مسلك مورد الحجة لا مسلك إفادة النسبَةِ الخبرية فتعين علينا أن نصرف التركيب عن استعمال ظاهره إلى استعمال مجازي على طريقة المجاز المرسل المركب من قَبيل استعمال الخبر في الإِنشاء والاستفهاممِ في التوبيخ ونحو ذلك الذي قال فيه التفتزاني في «المطول»: إن بيان أنه من أيّ أنواع المجاز هُو مما لم يَحُم أحد حوله. والذي تَصدَّى السيد الشريف لبيانه بما لا يُبقي فيه شبهة. فهذا الكلام مسوق مساق نقل الأقوال المستغربة المضطربة الدالة على عدم ثبات آراء أصحابها، فهو من الحكاية لِما كانوا يَعِدُون به فهو حكاية بالمعنى كأنه قيل: كنتم تقولون لا نترك ما نحن عليه حتى تأتينا البينة، وهذا تعريض بالتوبيخ بأسلوب الإِخبار المستعمل في إنشاء التعجيب أو الشكايةِ من صَلَففِ المُخبر عنه، وهو استعمال عزيز بديع وقريب منه قوله تعالى: {يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إن اللَّه مخرج ما تحذرون} [التوبة: 64] إذ عَبَّر بصيغة يَحْذَر وهم إنما تظاهروا بالحذر ولم يكونوا حاذرين حقاً ولذلك قال الله تعالى: {قل استهزئوا}. فالخبر موجَّه لكل سامع، ومضمومه قول: «كان صدر من أهل الكتاب واشتهر عنهم وعرفوا به وتقرَّر تعلُّل المشركين به لأهل الكتاب حتى يدعونهم إلى اتباع اليهودية أو النصرانية فيقولوا: لم يأتنا رسول كما أتاكم قال تعالى: {أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم} [الأنعام: 156، 157]. وتقرر تعلل أهل الكتاب به حين يدعوهم النبي صلى الله عليه وسلم للإِسلام، قال تعالى: {الذين قالوا إن اللَّه عهد إلينا ألاَّ نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار} [آل عمران: 183] الآية. وشيوعه عن الفريقين قرينة على أن المراد من سياقه دمغهم بالحجة وبذلك كان التعبير بالمضارع المستقبل في قوله: {حتى تأتيهم البينة} مصادفاً المحزّ فإنهم كانوا يقولون ذلك قبل مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم وقريب منه قوله تعالى في أهل الكتاب: {ولما جاءهم كتاب من عند اللَّه مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} [البقرة: 89]. وحاصل المعنى: أنكم كنتم تقولون لا نترك ما نحن عليه من الدين حتى تأتينا البينة، أي العلامة التي وُعدنا بها. وقد جعل ذلك تمهيداً وتوطئة لقوله بعده: {رسول من الله يتلوا صحفاً مطهرة} الخ. وإذ اتضح موقع هذه الآية وانقشع إشكالها فلننتقل إلى تفسير ألفاظ الآية. فالانفكاك: الإِقلاع، وهو مطاوع فكَّه إذا فصَله وفرقه ويستعار لمعنى أقلع عنه ومتعلق {منفكين} محذوف دل عليه وصف المتحدث عنهم بصلة {الذين كفروا} والتقدير: منفكين عن كفرهم وتاركين له، سواء كان كفرهم إشراكاً بالله مثل كفر المشركين أو كان كفراً بالرسول صلى الله عليه وسلم فهذا القول صادر من اليهود الذين في المدينة والقرى التي حولها ويتلقفه المشركون بمكة الذين لم ينقطعوا عن الاتصال بأهل الكتاب منذ ظهرت دَعوة الإِسلام يستفتونهم في ابتكار مخلص يتسللون به عن ملام من يلومهم على الإِعراض عن الإِسلام. وكذلك المشركون الذين حول المدينة من الأعراب مثل جُهَينة وغَطَفان، ومن أفراد المتنصرين بمكة أو بالمدينة. وقد حكى الله عن اليهود أنهم قالوا: {إن الله عهد إلينا ألا نؤمنَ لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار} [آل عمران: 183]، وقال عنهم: {ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} [البقرة: 89]، وحكى عن النصارى بقوله تعالى حكاية عن عيسى: {ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين} [الصف: 6]. وقال عن الفريقين: {ودَّ كثير من أهل الكتاب لو يردُّونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق} [البقرة: 109]، وحكى عن المشركين بقوله: {فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى} [القصص: 48] وقولهم: {فليأتنا بآية كما أرسل الأولون} [الأنبياء: 5]. ولم يختلف أهل الكتابين في أنهم أخذ عليهم العهد بانتظار نبيء ينصر الدين الحق وجعلت علاماته دلائلَ تظهر من دعوته كقول التوراة في سفر التثنية: «أقيم لهم نبيئاً من وسط إخوتهم مِثلَك وأجعل كلامي في فمه». ثم قولها فيه: «وأما النبي الذي يطغى فيتكلم كلاماً لم أوصه أن يتكلم به فيموت ذلك النبي وإن قلتَ في قلبك كيف نعرف الكلام الذي لم يتكلم به الرب فما تكلم به النبي باسم الرب ولم يحدث ولم يصر فهو الكلام الذي لم يتكلم به الرب (الإصحاح الثامن عشر). وقول الإنجيل: «وأنَا أطلب من الأب فيعطيكم معزِّياً آخر ليمكث معكم إلى الأبد (أي شريعته لأن ذات النبي لا تمكث إلى الأبد) روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه (يوحنا الإِصحاح الرابع عشر الفقرة 6) «وأما المعزي الروح القُدس الذي سيرسله الأب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكّركم بكل ما قلتُه لكم (يوحنا الإِصحاح الرابع عشر فقرة 26). وقوله: ويقوم أنبياء كَذَبةٌ كثيرون، (أي بعد عيسى) ويُضلون كثيرين ولكن الذي يَصْبر إلى المنتهى (أي يبقى إلى انقراض الدنيا وهو مؤول ببقاء دينه إذ لا يبقى أحد حياً إلى انقراض الدنيا) فهذا يخلِّص ويكرر ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة شهادةً لجميع الأمم ثم يأتي المنتهى»، أي نهاية الدنيا (متّى الإصحاح الرابع والعشرون)، أي فهو خاتم الرسل كما هو بين. وكان أحبارُهم قد أساءوا التأويل للبشارات الواردة في كتبهم بالرسول المقفِّي وأدْخَلوا علامات يعرفون بها الرسول صلى الله عليه وسلم الموعود به هي من المخترعات الموهومة فبقي مَنْ خَلْفَهم ينتظرون تلك المخترعات فإذا لم يجدوها كذَّبوا المبعوث إليهم. و {البينة}: الحجة الواضحة والعلامة على الصدق وهو اسم منقول من الوصف جرى على التأنيث لأنه مؤول بالشهادة أو الآية. ولعل إيثار التعبير بها هنا لأنها أحسن ما تترجَم به العبارةُ الواقعة في كتب أهل الكتاب مما يحوم حول معنى الشهادة الواضحة لكل متبصر كما وقع في إنجيل متّى لفظ «شهادة لجميع الأمم»، (ولعل التزام هذه الكلمة هنا مرتين كان لهذه الخصوصية) وقد ذُكرت مع ذكر الصحف الأولى في قوله: {وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أو لمْ تأتهم بينةُ ما في الصُّحف الأولى} [طه: 133]. والظاهر أن التعريف في {البينة} تعريف العهد الذهني، وهو أن يراد معهود بنوعه لا بشخصه كقولهم: ادخُل السوق، لا يريدون سوقاً معينة بل ما يوجد فيه ماهية سوق، ومنه قول زهير: وما الحَرْب إلاّ ما عَلِمْتُم وذُقْتُم *** ولذلك قال علماء البلاغة: إن المعرَّف بهذه اللام هو في المعنى نكرة فكأنه قيل حتى تأتيهم بينةٌ. ويجوز أن يكون التعريف لمعهود عند المخبَر عنهم، أي البينة التي هي وصايا أنبيائهم فهي معهودة عند كل فريق منهم وإن اختلفوا في تخيلها وابتعدوا في توهمها بما تمليه عليه تخيلاتهم واختلاقهم. وأوثرت كلمة {البينة} لأنها تعبر عن المعنى الوارد في كلامهم ولذلك نرى مادَّتها متكررة في آيات كثيرة من القرآن في هذا الغرض كما في قوله: {أوَلَمْ تأتهم بينة ما في الصحف الأولى} [طه: 133] وقوله: {فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين} [الصف: 6] وقوله: {مِن بَعد ما تبيَّن لهم الحق} [البقرة: 109] وقال عن القرآن: {هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان} [البقرة: 185]. و {مِن} في قوله: {من أهل الكتاب} بيانية بيان للذين كفروا. وإنما قدم أهل الكتاب على المشركين هنا مع أن كفر المشركين أشد من كفر أهل الكتاب لأن لأهل الكتاب السبق في هذا المقام فهم الذين بثّوا بين المشركين شبهة انطباق البينة الموصوفة بينهم فأيدوا المشركين في إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بما هو أتقن من تُرَّهات المشركين إذ كان المشركون أميين لا يعلمون شيئاً من أحوال الرسل والشرائع، فلما صدمتهم الدعوة المحمدية فزعوا إلى اليهود ليتلقوا منهم ما يردُّون به تلك الدعوة وخاصة بعد ما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. فالمقصود بالإِبطال ابتداءً هو دعوى أهل الكتاب، وأما المشركون فتبع لهم. واعلم أنه يجوز أن يكون الكلام انتهى عند قوله: {حتى تأتيهم البينة}، فيكون الوقف هناك ويكون قوله: {رسول من اللَّه} إلى آخرها جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً وهو قول الفراء، أي هي رسول من الله، يعني لأن ما في البينة من الإِبهام يثير سؤال سائل عن صفة هذه البينة، وهي جملة معترضة بين جملة {لم يكن الذين كفروا... منفكين} إلى آخرها وبين جملة: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب} [البينة: 4]. ويجوز أن يكون {رسول} بدلاً من {البينة} فيقتضي أن يكون من تمام لفظ «بينة» فيكون من حكاية ما زعموه. أريد إبطال معاذيرهم وإقامة الحجة عليهم بأن البينة التي ينتظرونها قد حلّت ولكنهم لا يتدبرون أو لا ينصفون أو لا يفقهون، قال تعالى: {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} [البقرة: 89]. وتنكير {رسول} للنوعية المرادِ منها تيسير ما يستصعب كتنكير قوله تعالى: {أياماً معدودات} [البقرة: 184] وقول: {المص كتاب أنزل إليك} [الأعراف: 1، 2]. وفي هذا التبيين إبطال لمعاذيرهم كأنه قيل: فقد جاءتكم البينة، على حد قوله تعالى: {أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير} [المائدة: 19]، وهو يفيد أن البينة هي الرسول وذلك مثل قوله تعالى: {قد أنزل اللَّه إليكم ذكراً رسولاً يتلو عليكم آيات اللَّه} [الطلاق: 10، 11]. فأسلوب هذا الردّ مثل أسلوب قوله تعالى: {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً أو تأتي باللَّه والملائكة قبيلاً أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث اللَّه بشراً رسولاً} [الإسراء: 90 94]. وفي هذا تذكير بغلطهم فإن كتبهم ما وعدت إلا بمجيء رسول معه شريعة وكتاب مصدق لما بين يديه وذلك مما يندرج في قولة التوراة: «وأجْعَلُ كلامي في فمه». وقول الإنجيل: «ويُذَكِّرُكم بكل ما قلتُه لكم» كما تقدم آنفاً، وهو ما أشار إليه قوله تعالى: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب} [المائدة: 48] لأن التوراة والإنجيل لم يصفا النبي الموعود به إلا بأنه مثل موسى أو مثل عيسى، أي في أنه رسول يوحي الله إليه بشريعة، وأنه يبلغ عن الله وينطلق بوحيه، وأن علامته هو الصدق كما تقدم آنفاً. قال حجة الإِسلام في كتاب «المنقذ من الضلال»: «إن مجموع الأخلاق الفاضلة كان بالغاً في نبينا إلى حد الإِعجاز وأن معجزاته كانت غاية في الظهور والكثرة». و {من اللَّه} متعلق ب {رسول} ولم يُسلَك طريق الإِضافة ليتأتى تنوين {رسول} فيشعر بتعظيم هذا الرسول. وجملة {يتلوا صحفاً} الخ صفة ثانية أو حال، وهي إدماج بالثناء على القرآن إذ الظاهر أن الرسول الموعود به في كتبهم لم يوصف بأنه يتلو صحفاً مطهرة. والتلاوة: إعادة الكلام دون زيادة عليه ولا نقص منه سواء كان كلاماً مكتوباً أو محفوظاً عن ظهر قلب، ففعل {يتلو} مؤذن بأنه يقرأ عليهم كلاماً لا تُبَدَّل ألفاظه وهو الوحي المنزل عليه. والصحف: الأوراق والقراطيس التي تُجعل لأن يكتب فيها، وتكون من رَق أو جلد، أو من خِرَق. وتسمية ما يتلوه الرسول {صحفاً} مجاز بعلاقة الأيلولة لأنه مأمور بكتابته فهو عند تلاوته سيكون صُحفاً، فهذا المجاز كقوله: {إني أراني أعصر خمراً} [يوسف: 36]. وهذا إشارة إلى أن الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بكتابة القرآن في الصحف وما يشبه الصحف من أكتاففِ الشاء والخِرَق والحجارة، وأن الوحي المنزل على الرسول سمي كتاباً في قوله تعالى: {أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم} [العنكبوت: 51] لأجل هذا المعنى. وتعدية فعل {يتلو} إلى {صحفاً} مجاز مرسل مشهور ساوى الحقيقة قال تعالى: {وما كنت تتلو من قبله من كتاب} [العنكبوت: 48]، وهو باعتبار كون المتلو مكتوباً، وإنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو عليهم القرآن عن ظهر قلب ولا يقرأه من صحف فمعنى {يتلو صحفاً} يتلو ما هو مكتوب في صحف والقرينة ظاهرة وهي اشتهار كونه صلى الله عليه وسلم أمِّيّاً. ووصف الصحف ب {مطهرة} وهو وصف مشتق من الطهارة المجازية، أي كون معانيه لا لبس فيها ولا تشتمل على ما فيه تضليل، وهذا تعريض ببعض ما في أيدي أهل الكتاب من التحريف والأوهام. ووصف الصحف التي يتلوها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن فيها كتباً، والكتب: جمع كتاب، وهو فِعال اسم بمعنى المكتوب، فمعنى كون الكتب كائنة في الصحف أن الصحف التي يكتب فيها القرآن تشتمل على القرآن وهو يشتمل على ما تضمنته كتب الرسل السابقين مما هو خالص من التحريف والباطل، وهذا كما قال تعالى: {مصدق لما بين يديه} [البقرة: 97] وقال: {إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى} [الأعلى: 18، 19]، فالقرآن زُبدة ما في الكتب الأولى ومجمع ثمرتها، فأطلق على ثمرة الكتب اسم كتب على وجه مجاز الجزئية. والمراد بالكتب أجزاء القرآن أو سوره فهي بمثابة الكتب. والقيِّمة: المستقيمة، أي شديدة القيام الذي هو هنا مجاز في الكمال والصواب وهذا من تشبيه المعقول بالمحسوس تشبيهاً بالقائم لاستعداده للعمل النافع، وضده العِوَج قال تعالى: {الحمد للَّه الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عِوجاً قيماً} [الكهف: 1، 2]، أي لم يجعل فيه نقص الباطل والخطأ، فالقيّمة مبالغة في القائم مثل السيد للسائد والميت للمائت. وتأنيث الوصف لاعتبار كونه وصفاً لجمع.
{وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4)} ارتقاء في الإِبطال وهو إبطال ثان لدعواهم بطريق النقض الجدلي المسمى بالمعارضة وهو تسليم الدليل والاستدلالُ لما ينافي ثبوت المدلول، وهذا إبطال خاص بأهل الكتاب اليهود والنصارى، ولذلك أظهر فاعل {تفرق} ولم يقل: وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءتهم البينة، إذ لو أضمر لتوُهِّمَت إرادة المشركين من جملة معاد الضمير، بعد أن أبطل زعمهم بقوله: {رسول من الله يتلوا صحفاً مطهرة} [البينة: 2] ارتقى إلى إبطال مزاعمهم إبطالاً مشوباً بالتكذيب وبشهادة ما حصل في الأزمان الماضية. فيجوز أن تكون الواو للعطف عاطفة إبطالاً على إبطال، ويجوز أن تكون واو الحال. والمعنى: كيف يزعمون أن تمسكهم بما هم عليه من الدين مغيّاً بوقت أن تأتيهم البينة والحال أنهم جاءتهم بينة من قبل ظهور الإِسلام وهي بينة عيسى عليه السلام فتفرقوا في الإِيمان به فنشأ من تفرقهم حدوث مِلتين اليهودية والنصرانية. والمراد بهذه البينة الثانية مجيء عيسى عليه السلام فإن الله أرسله كما وعدهم أنبياؤهم أمثالُ إلياسَ واليسع وأشعياء. وقد أجمع اليهود على النبي الموعود به تجديد الدين الحق وكانوا منتظرين المخلص، فلما جاءهم عيسى كذبوه، أي فلا يطمع في صدقهم فيما زعموا من انتظار البينة بعد عيسى وهم قد كذبوا ببينة عيسى، فتبين أن الجحود والعناد شنشنة فيهم معروفة. والمراد بالتفرق: تفرق بني إسرائيل بين مكذّب لعيسى ومؤمن به وما آمن به إلا نفر قليل من اليهود. وجُعل التفرق كناية عن إنكار البينة لأن تفرقهم كان اختلافاً في تصديق بينة عيسى عليه السلام، فاستعمل التفرق في صريحه وكنايته لقصد إدماج مَذَمتهم بالاختلاف بعد ظهور الحق كقوله: {وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم} [آل عمران: 19]. فالتعريف في {البينة} المذكورة ثانياً يجوز أن يكون للعهد الذهني، أو للمعهود بَيْن المتحدَّث عنهم، وهي بينة أخرى غير الأولى وإعادتُها من إعادة النكرة نكرة مثلها إذ المعرف بلام العهد الذهني بمنزلة النكرة، أو من إعادة المعرفة المعهودة معرفةً مثلها، وعلى كلا الوجهين لا تكون المعادة عين التي قبلها. وقد أطبقت كلمات المفسرين على أن معنى قوله تعالى: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة} أنهم ما تفرقوا عن اتباع الإِسلام، أي تباعدوا عنه إلا من بعد ما جاء محمد صلى الله عليه وسلم وهذا تأويل للفظ التفرق وهو صرف عن ظاهره بعيد فأشكل عليهم وجه تخصيص أهل الكتاب بالذكر مع أن التباعد عن الإِسلام حاصل منهم ومن المشركين، وجعلوا المراد ب {البينة} الثانية عين المراد بالأولى وهي بينة محمد صلى الله عليه وسلم سوى أن الفخر ذكر كلمات تنبئ عن مخالفة المفسرين في محمل تفرق الذين أوتوا الكتاب فإنه بعد أن قرر المعنى بما يوافق كلام بقية المفسرين أتى بما يقتضي حمل التفرق على حقيقته، وحمل البينة الثانية على معنى مغاير لمحمل {البينة} الأولى، إذ قال: «المقصود من هذه الآية تسلية محمد صلى الله عليه وسلم أي لا يغمنّك تفرقهم فليس ذلك لقصور في الحجة بل لعنادهم فسلفهم هكذا كانوا لم يتفرقوا في السبب وعبادة العجل إلا بعد ما جاءتهم البينة، فهي عادة قديمة لهم»، وهو معارض لأول كلامه، ولعله بدا له هذا الوجه وشغله عن تحريره شاغل وهذا مما تركه الفخر في المسودة.
|